السبت، 3 يناير 2009

أنا غزة فاسحقوني


نصري الصايغ


1 - أنا غزة، هل تعرفوني؟
أنا غزة، ومكان إقامتي أرض بقامة التراب، تتسع لتصل إلى ما بعد الأسلاك الشائكة، وتتعرج قليلاً لتبعد عن حافة الفراغ.
2 - أنا غزة، هل عرفتموني؟
سأشرح أكثر، أمي فلسطين، وجدي مقدسي، وأحفادي منذورون للسماء، ولي عائلة كموج البحر، تتسلق عتبة القلب لتبلغ مدى الدماء.
3 - أنا غزة هل سمعتم بي؟
سأسمعكم صوتي: هو نسيج من حداء وبكاء، من فرح مؤجل وحزن مستقيم الدمع، وتكبير يسمعه الله، ونداء استغاثات أحياناً، تطالبكم فقط، بأن تبقوا على حنجرتها، لترتّل ما تبقى من صبر وصمت.. هذا صوتي، هل سمعتموه؟
4 - أنا غزة، هل شاهدتموني؟
سأريكم وشم أجسادي، لسنا صورة على شاشة، لسنا بضاعة لكساد الكسل العربي، لسنا آفة تفتك بالنوم الإنساني، غزة جسد من بشر: لي أمهات تعدد أوجاع الولادات ومناديل الوداع، لي رجال بعدد السواعد، وحنان بلا حدود، لي أولاد يشبهون الكتاب المدرسي، ولي شجرة عائلة تعطي ثمراً بلون الغياب.
5 - أنا غزة هنا، بقربكم، على مرمى حب، على مفارق لقاءاتكم، على مرأى من إغماضة عيونكم.. فلماذا تركتموني وحيدة، في ليل الذئب عندما أكل ليلى؟
6 - أنا غزة العربية، هل ما زلتم تجيدون اللغة؟
أنا في ألفباء العروبة، ومن أبجدية الصلاة ومن الخيل والليل والبيداء.. أنا المعلقة الأولى على ستائر وطن تغيب عن الاقامة في أرضه، أنا الجملة الإسمية والجملة الفعلية، وياء النداء وفعل الرجاء، ولست الجملة الشرطية المتعلقة بألف تبرير للحوت الطوعي، أنا غزة الشاهقة المراقة فوق كتابها، ناطورة اليوم، منتظرة الغد، حارسة التراب إلى يوم القيامة.
7 ـ أنا غزة الغزاوية، ولن أعرفكم بي بعد الآن، أنتم تعرفونني جيداً، جعت فلم تطعموني.
سجنت ولم تزوروني.
حوصرت ولم تنقذوني.
فقتلت وبكيتم على قاتلي..
8 ـ أنا غزة، وأعرفكم، ملكاً ملكاً، أميراً أميراً، رئيساً رئيساً، حزباً حزباً، قبيلة قبيلة، عشيرة عشيرة.. ولا تمتون إليّ بصلة رحمة ولقمة كرامة، أجمل ما لديكم، أبراج من بابل النفاق وما لذ وطاب من حرام، والقول المنقوش على تخاذلكم: "أهل غزة أدرى بشعابها".
9 ـ أنا غزة الغزاوية.. لن أطلب منكم شيئاً، إنما دعونا نقاتل موتنا، دعونا نموت حياتنا، دعونا بين موتين، نبحث عن طلقة للمقاومة، لسنا من الذين يموتون في غفف العمر، وتخثر العافية، وزنخ الضمير وقذارة البقاء، لسنا آلهة ولا أنصاف آلهة، بل نحن بشر فقط، وبهذا الاسم نتزيا، وبالانسان العربي فينا، نتزين، وبالموت الذي لدينا، نرتقي إلى حياتنا.
10 ـ أنا غزة، ولست أقيم بينكم.
هل تعرفون مكان إقامة مصر؟ في منطقة ما، قريبة من القطب الشمالي، أو أبعد قليلاً، رجاءً أرسلوا إليها ما يدفئ روحها المتجمدة، وما يسمح ليديها بأن تفركهما أو تصفق لهما، ترحيباً بسيدٍ ما، إما يجيد لغة عبرية، أو لغة عربية بصياغة اميركية.
11ـ أنا غزة، ولست في هذه الجغرافيا العربية، وهذا التابوت المسجّى، بين محيط وخليج، لست بلاداً مترامية بين نفط سائب ومياه مالحة القلب، ورمال بلون الذهب المباع، لست ما تبقى من عصور المماليك، وما خلّفته الخلافة من خلافات على جنس الملائكة، وجنس السلطة.
12 ـ أنا غزة، ولست أشبه أحداً باستثناء ما جاء في سفر المقاومة:
بيروت شقيقتي.
والقدس وأخواتها عائلتي.
لا تسألوني عما تبقّى فأنا المحطمة، وتنافسونني بالرخام وغبار. أنا الميتة أنبض بالحياة، أراقب موتكم ولا تموتون.
أعرف كيف تموتون وكيف متم من قبل، وكيف انتم أموات غداً.. وتقول المقابر عنكم: "بأي ذنب أدفن" معكم.
13 ـ أنا غزة الغزاوية، والأعداء من كل الجهات: السماء تجعر طائراتها، الهواء يسافر إلى القصف ليحضر الحرائق ويلهبها، الأرض حصار وبعد حصار فوق حصار قبل حصار، وما تحت الأرض يقول لنا كفى ضاقت الأرض بالشهداء، والجنة تطالبنا بالانتظار أحياء يرزقون ليقاتلوا مرة أخرى.
كتب علينا أن نحيا، وكتبنا نحن، كتب علينا أن نقاتل لنحيا، أو نحيا موتنا سيان.
14 ـ أيها الأعداء، عدواً عدواً: ليس لدينا ما نعطيكم، أخذتم منا كل شيء.
أرضنا أخذتموها.
وطننا أخذتموه.
تاريخنا سرقتموه.
خبزنا اغتلتموه.
ليس لدينا ما نعطيكم، لا نملك إلا ما تيسّر لنا، من أوهام تلد، ولسنا على استعداد لتقديمهم هدايا لكم، لتبسلوهم وتصادروا أنفاسهم، وتعتقلوا غدهم، ليس لنا أن نعطيكم أعناقنا لتضعوا فيها نير العبودية، لن نسلمكم سواعدنا لتصادروا عصبها، ليس لنا إلا ما تبقى لنا، وهو كثير، ولكنه لنا، جسدنا لنا، روحنا لنا، ترابنا لنا.
15 - أيها الأعداء سنقاتلكم حتى بعد موتنا.
سنطاردكم إلى دهر الداهرين.
وسيكتب لنا وهج الانتصارين:
الانتصار بالإنسان
والانتصار بالأوطان.
أيها الغزاة،
لسنا على عجلة من أمرنا.
نحن بانتظار الأعظم الآتي، الأعظم الذي نصنعه، وهو بسيط جداً جداً: نحن من هنا، ونبقى هنا.
انتم، من هناك، ولن تبقوا هنا..
فما أروعك يا فلسطين، وما أبهاك يا قدس، وما أقدس دمك يا غزة.
الانتقاد/ العدد 1327

ليست هناك تعليقات: