أمير قانصوه
يفاجئنا الموت في كل لحظة ليسرق منا عزيزاً، فيشعل من لحظة الحزن ولوعة الفراق كل ذلك الحنين لمن مضوا الى ربّهم، ونفوسهم راضية مرضية.
هذا ما فعله حيدر الغول حين تسلل من بيننا، لم ينظر الى الخلف أبداً، برغم انه ترك وراءه الكثير من الأحبة الذين يأنسون بطلّته، وتسعدهم بسمته، ويريحهم هدوؤه.
جاء حيدر الى هذه الدنيا وهو لا يحمل في جعبته غير بطاقة واحدة، شهادة مؤجلة. ربما الشهادة هي الأمر الوحيد الذي أحبه في سره وطبع قلبه عليه. لقد انتظرها طويلاً بين جنبات بلدته الخيام. وربما يقول قائل: ان حيدر استحقها هناك على تراب الخيام وقبالة فلسطين العزيزة، لكنها تحققت بعد أربع عشرة سنة حين سقط بجراح من الأسر صابراً محتسباً.
من الأسر مباشرة الى الإعلام المقاوم جاء حيدر، ليكمل المسيرة التي بدأها، وهو الذي كان بين جدران الزنزانة صوتاً ينخر آذان السجانين، سواء اذا أطلق شعاراً أو تلا القرآن أو أنشد للمقاومة بصوته العذب.
الكل يعلم أن أهم وظيفة قد يضطلع بها الإعلامي هي التواصل مع من يملك المعلومات، ليعيد تقديمها الى الجمهور، لكن مع حيدر الغول كانت الأمور تبدأ على هذا النحو وسرعان ما تنقلب، ليصبح هو المحاوَر، فيروي السيرة الكاملة، ليس سيرته فحسب، بل سيرة مئات الأسرى في معتقل الخيام، ممن حمل حيدر صوتهم قوياً وعالياً، وصرخ به في وجه كل من كان يحاول ان يسجن معتقل الخيام ونزلاءه في ظلمة النسيان.
كان حيدر الغول يستطيع ان يجعل منك وأنت تستمع الى حكاية المعتقل أسيراً لروايته، كيف كان يُعتقل الشباب ومن كان يقوم بالاعتقال.. يسمي لك العملاء والسجانين بأسمائهم، ويحدثك بلوعة كيف لم تحاسب المحاكم اللبنانية هؤلاء بما يوازي جرائمهم بحق شعبهم!! يروي لك كل الحكاية، حتى اذا كانت الخاتمة قال:
"كنت فتى حين اعتقلت، لم أشبع من حنان أمي وحبها.. أودعت ذلك المعتقل الذي يبعد مئات الأمتار عن بيتنا، كان القلق ينهش قلب أمي، وكانت تحاول وتحاول دائماً ان تصل ولو الى الهواء الذي أتنشقه.. وكنا حين نُنقل من السجن الى المستشفى نعبر في دروب الخيام، فأسترق النظر من فتحات صغيرة في الآلية لعلّي أرى وجه تلك الحبيبة".
كان الفتى يصرخ بأعلى صوته "أمي"، لكن حتى ذلك الصوت كان ممنوعاً أن يصل اليها.
قبل أسبوعين من الرحيل، التقيته في ردهة المنار على عجل.. قال لي إني مريض وسأدخل المستشفى. وعلمت لاحقا أنه أودع وصيته في أرشيف المنار، ربما كان يعلم أن الشهادة المؤجلة قد دنت.
حيدر.. لو كنت أعلم أني أنظر اليك للمرة الأخيرة، لكنت أطلت النظر.
الانتقاد ـ العدد1356 ـ 24 تموز/يوليو 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق