بقلم د. وليم نصار*
- بيلاطس: من أنت ؟
- إيلاريون ابن عز الدين القسام كبوجي.
- بيلاطس: ما مهنتك ؟
- كبوجي: مرتّل، حينا بالصنوج وأحيانا بالبندقية، أما صوتي فلا أطلقه إلا نادرا.
- بيلاطس: أنت متهم بالتخريب وتهريب الأسلحة، فماذا تطلب ؟
- كبوجي: لا أطلب شيئا سوى السماح لي بأن أسمعك ترتيلة:
لما رسمني الشهيد يسوع بن يوسف أسقفا على البطاح الفلسطينية هامسني قائلا:
"إيلاريون، إحمل جسدك على كفك واقصد الجياع للحرية علهم يفرحون. أسكب دمك في الكأس وناول المؤمنين."
أنا لم أحرض ولم أسرق ولا ساكنت شريرا.
أنا نفذ الخمر في كنيستي والرعية عطشى، فهرقت دمي ورويت.
وحكمت المحكمة بسجن إيلاريون كبوجي إثني عشر عاما، لأنها ضبطته يقدم جسده على المذبح خلافا لقوانين الدولة التي تنص على تقديم الكلام فقط.
... واليوم، يطلع الشاهد الفلسطيني، ينتشر غيمة، خبزا ورصاصة. يتكور فيصير قنبلة، ينبسط فيصير مظاهرة، يتطاول فيصير رمحا.
وفي غمرة التحولات العظيمة يدخل كل بيت حاملا القمح، مرتلا ما تيسر له من سورة الغضب، ترتيلا. يستدعي الجياع والصغار وورثة الأرض إلى مجلسه ليروي الحكاية.
يفترشون الأرض، راسمين في الجلوس خريطة فلسطين، يتربع وسطهم كالسهم ويحكي الحكاية:
قيل لكم أن الفلسطيني باع أرضه لليهود وفر خائنا. أما أنا فأقول لكم أنه شهر السلاح، ثورة تلو الثورة، منذ عشرينات القرن، ولما خرجت جيوش العرب مجتمعة واستحكم به الطغيان نزح حاسبا أنه عائد في شهر، كما وعدوه، وطال الشهر حتى حمل السلاح مجددا ليعود.
قيل لكم أن "إسرائيل" رؤوفة بالنصارى، تبسط لهم جناح الرحمة والحماية، تريدهم أعزة لا يسود عليهم أصولي مسلم. أما أنا فأقول لكم، إن "إسرائيل" رؤوفة بمن يهبها الأرض والمخلوقات، بطّاشة بمن تعاف نفسه الخيانة… تبسط الحماية لنفسها توطيدا لاحتلالها حتى تستسلم لها كل رقبة، ويرهب جانبها كل ذي نسمة.
أو لست أسقفا، رسما للمسيح وسط المؤمنين ؟ فلمَ طرحتني في الظلمة ورفعت علي السوط؟
أو ليس أبناء أقرت وكفر برعم نصارى ؟ فلماذا ذاقوا مر التهجير واكتووا بعذاب أليم؟
أو ليست كنيسة القيامة كبرى معابدنا، وحافظة قبر المسيح الرب(1) .. فلمَ استباحها الكلاب وهزأت بنات الهوى بأيقونة العذراء؟
قيل لكم بأن المقاومة عمل عبثي فباتت قصرا على بضعة أنفار يعبثون بالأمن ويحملون للناس الموت وجفاف الضرع...
أما أنا فأقول لكم، إن الثورة ليست رجلا، ولا سلاحا، ولا حجما يزيد أو ينقص.
إنها الصوت الفلسطيني في المخيمات، متى صدح بالحق استحالت سائر الأصوات نقيقا.
إنها النار الفلسطينية، لم يقربها كبير من كبار الدنيا ليعبث بها إلا وترمّد.
إنها مقياس الإنتماء الوطني والعروبي، الإسلامي والمسيحي في التاريخ العربي المعاصر…. عندها وحدها تسفر الوجوه وتنكشف السرائر.
إنها وحدها الفاصل بين الوطنية والخيانة... لذا فهي الأقوى، أقوى من حجمها، أقوى من أولياء أمورها مجتمعين.
وسكت إيلاريون، مرتقبا طلوع أول صباح خارج فلسطين..وسكت الجميع، إلا فتى رقيق الطلعة حدّق في وجه إيلاريون..حدّق طويلا، فرأى دمعا حادا وكآبة عروبية المذاق.
قام الفتى، نظر إلى المخيم وهو يحاول أن يداري دموعه.
حمل سلاحه الصغير...
ومشى.
(1) كلمة الرب باللغة الآرامية الكنعانية تعني المعلم وليس الاله او الخالق كما يعتقد الكثيرون.
____________
· الدكتور وليم نصار مؤلف موسيقي وناشط سياسي مقيم في المنفى.
· عضو اللجنة العليا للقدس عاصمة الثقافة العربية 2009 ومنسقها العام خارج فلسطين المحتلة.